* مقالة حول علاقة اللغة بالفكر لجميع الشعب
من اعداد الاستاذ القدير صوالحي جعلها الله في ميزان حسناته.
من اعداد الاستاذ القدير صوالحي جعلها الله في ميزان حسناته.
- هل يمكن تصور وجود أفكار خارج إطار اللغة ؟
- هل يمكن التفكير فيما نعجز عن قوله ؟
- هل بإمكان اللغة أن تعبر عن كل أفكارنا ؟
- هل يمكن للإنسان أن يفكر دون لغة ؟
- هل القدرة على التفكير تتناسب مع القدرة على التبليغ ؟
* طرح المشكلة :
يعتبر موضوع اللفة من المواضيع التي نالت إهتمام الفلاسفة والمفكرين منذ القدم ، وذلك من حيث أنها ترتبط بدراسات نفسية من جهة وبدراسات أركيولوجية فيزيولوجية من جهة أخرى ، ومن بين هذه المواضيع نجد موضوع علاقة اللغة بالفكر ، فاللغة من حيث مفهومها تعرف على أنها مجموعة من الإشارات والرموز التي من بين أغراضها التواصل ، أما الفكر يمثل عمل العقل في الذات ، ولقد طرح موضوع هذه العلاقة جدلا واسعا بين الفلاسفة والمفكرين وعلماء اللغة ، فهناك من إعتبر أن الفكر ينفصل عن كل ماهو لغوي ورمزي ، وهناك من إعتبر أن كل ما هو رمزي ولغوي ما هو إلا تعبير عن كل ما هو فكري مجرد ، وبين هذا وذاك وجب طرح الإشكالية التالية : هل يمكن للفكر أن يوجد في غياب اللغة المعبرة عنه ؟ وهل بإمكاننا إصطناع وإستحداث لغة دون فكر يحكمها ويوجهها ؟ وبعبارة أخرى : هل الفكر منفصل عن اللغة ومستقل عنها ، أم أنه لا يمكن أن يوجد خارج عنها ؟
* محاولة حل المشكلة :
يرى أصحاب الإتجاه الثنائي وعلى رأسهم ( أفلاطون ، ديكارت ، هنري برغسون ، جون بياجي ، شوبنهاور ) أن العلاقة بين اللفة والفكر علاقة إنفصال ، ومن أهم الحجج التي إستندوا عليها أن الفكر أرحب وأوسع من اللغة ، لأن أهم مميزاته أنه يمثل ديمومة مستمرة واللغة هنا تبقى عاجزة عن مسايرة ديمومته ، فالفكرة يمتاز كذلك بالحيوية وهو قابل للتطور والتجدد باستمرار ، عكس اللغة محدودة وألفاظها محدودة وجامدة وغالبا ما تكون عاجزة عن التعبير ، فالفيلسوف اليوناني ( أفلاطون ) يعطي الأسبقية الأنطولوجية للفكر على حساب اللغة ، فالفكرة في نظره له أسبقية وجودية وإبستيمولوجبة على اللغة ، أي أنه سابق في الوجود عليها ، فمستودع الأفكار المطلقة عند أفلاطون هو عالم المثل ، وهي توجد في هذا العالم بدون كلمات ، بينما اللغة تنتمي إلى عالم آخر يأتي في مرتبة سفلى وهو العالم المادي المحسوس ، وبالتالي فاللغة حسب أفلاطون ليست سوى أداة للتعبير عن فكر سابق لها ، أما الفيلسوف الفرنسي ديكارت إعتبر أن الإنسان جوهر مفكر ، والفكر مستقل عن المادة ، وبالتالي فاللغة باعتبارها مجموعة من الأصوات والحركات الخاصة بجهاز النطق مستقلة عن الفكر ، ويستند ديكارت ديكارت على اختلاف اللغة عن الفكر إلى أدلة كثيرة أهمها : أن لكل منهما كيانه ومحمولاته الخاصة ، وكذلك أن الفكر جوهر لامادي أي أنه كيان روحي داخلي مستقل يتميز بالثبات والإستقرار ، أما اللغة كيان مادي خارجي لأنها تمثل مجموعة أصوات منطوقة وكلمات مكتوبة لها قدرة على الإنتقال مما يجعلها تتميز بالحركة والدينامية ، وينفي ديكارت إمكانية قيام علاقة مباشرة بين اللغة والفكر باعتبارهما من طبيعتي مختلفتين ومتناقضتين ، واذا فالعلاقة حسبه هي علاقة إنفصال وإستقلال . أما ( هنري برغسون ) يرى أن هنالك الأفكار والمشاعر أكثر مما هناك من الكلمات ، فاللغة وفق رؤيته الفلسفية عاجزة وقاصرة عن إحتواء الفكر ، ويعكس كذلك هذا العجز في المجال العلمي ( الرياضيات والفيزياء ) ، بحيث لا تستطيع اللغة الطبيعية الإحاطة بالابداع العلمي ، وبسبب هذا العجز يلجأ العقل إلى إبداع لغة رمزية تجسد العمليات العقلية المعقدة ، ومن هنا يقسم لنا برغسون العالم إلى قسمين : أول هذه الأقسام هو العالم الخارجي ( عالم الأشياء والظواهر والموجودات المادية ) ، وثاني هذه الأقسام هو العالم الداخلي الذي يمثل الحالات الفكرية والشعورية الوجدانية ، فإذا كانت اللغة حسب برغسون تستخدم من طرف الفكر لإستيعاب العالم المادي والسيطرة عليه ، فإنها لا تستطيع أن تفعل ذلك أمام الحالات الشعورية والوجدانية التي تختلف من حيث طبيعتها عن الأشياء المادية ، وعموما فلجوء الإنسان إلى الوسائل التعبيرية كالرسم والموسيقى والرموز الرياضية ...الخ لأكبر دليل يثبت عجز اللغة عن التعبير على مكونات الفكر ، ومن هذا المنوال يقول ( برغسون ) : { اللغة عاجزة عن مسايرة ديمومة الفكر } ، ومن نفس الطرح ذهب ( جون بياجي ) إلى إعتبار أن اللغة تلعب دورا هاما في تطور الفكر وبلوغ مستويات أعلى إلا أنه من الخطأ المساواة بينهما ، لأنه حسب رؤيته الفلسفية أن الفكر أسبق من اللغة ، وحتى ولو كانت اللغة تلعب دورا مهما في تطور الفكر إلا أنه لا يمكن أن تتساوى معه ، أما ( شوبنهاور ) يرى أن الفكر حيوي واللغة جامدة ، وبالتالي تموت أفكارنا حين نحاول ترجمتها إلى كلمات ، حيث يقول : { الأفكار تموت لحظة تجسيدها في كلمات } ، كما نجد ( الجاحظ ) يرى أن اللغة عاجزة على التعبير لعدم قدرتها على مسايرة زخم الأفكار ، حيث يقول : { إن حكم المعاني خلاف حكم الألفاظ لأن المعاني مبسوطة إلى غير نهاية وأسماء المعاني معدودة ومحدودة } .
- نقد وتقييم :
من المبالغ فيه إعتبار أن اللغة والفكر ذو علاقة إنفصالية وإستقلالية ، كما بالغ هؤلاء في تمجيد الفكر على حساب اللغة ، ذلك أن الفكر دون لغة يمثل نشاطا أخرسا ، كما أن معطيات علم النفس تؤكد أن الطفل يتعلم اللغة والفكر معا ، فالإعتقاد بوجود فكر دون لغة مجرد وهم ، فاللغة عماد الفكر الصامت واولادها لتعذر على الإنسان التفكير في حقائق الأشياء ، فهي التي تخرج الفكر من ثوبه المجرد وتجعلها حاضرا أنطولوجيا وإبستيميا ، كما أن عجز اللغة ععلى التعبير عن التعبير كل أفكارنا أحيانا يعود إلى محدودية ما نملكه من ثروة لغوية في الفكر وليس إلى اللغة في حد ذاتها .
الموقف الثاني :
من جهة أخرى يرى أصحاب الإتجاه الأحادي وعلى رأسهم ( دوسوسير ، ميرلوبونتي ، هردر ، هيغل ) أن العلاقة بين اللفة والفكر علاقة إتصال ، حيث ذهب ( دوسوسير ) إلى إعتبار أن الفكر بدون لغة عبارة عن كتلة من الضباب لاشيء فيها يبدو متميزا واضح المعالم ، فالعلامة اللسانية في نظره هي التي تجعلنا قادرين على التمييز بين الأفكار ، فإذن لا وجود لأفكار قائمة بذاتها ولا يمكن الحديث عن أفكار واضحة ومتميزة قبل ظهور اللغة ، فاذا كنا حسب دوسوسير نتكلم فإننا لا نتكلم لنعبر عن أفكارنا كما يقول ديكارت ، بل نتكلم لنفكر ، انتاج الأفكار ، وليحصل لنا الوعي بها ، والدليل على ذلك هو أن الكلام الداخلي مع الذات لا يظهر إلا عندما نفكر ، وفي نفس السياق شبه لنا دوسوسير العلاقة بين اللغة والفكر بوجه الورقة وظهرها بحيث لا يمكن الفصل بينهما ، يقول : { إن الفكر هو وجه الصفحة ، بينما الصوت هو ظهر الصفحة ، ولا يمكن قطع الوجه دون أن يتم في الوقت نفسه قطع الظهر ، وبالمثل لا يمكن في مضمار اللغة فصل الصوت عن الفكر أو فصل الفكر عن الصوت } ، في حين ذهب ( ميرلوبونتي ) إلى إعتبار أن هنالك إرتباطاً دياليكتيكيا بين اللغة والفكر ، ولا يمكن إعتبارهما في أي حال من الأحوال موضوعين منفصلين ، فالتفكير الصامت حسبه الذي يوحي لنا بوجود حياة باطنية هو في الحقيقة - مونولوج - داخلي يتم بين الذات ونفسها ، بمعنى أنه يمثل ضجيج من الكلمات ، لأن اللغة والفكر يشكلان وجودا علائقيا ، فلا وجود حسب ميرلوبونتي لفكر خارج العلامات اللغوية ، فنحن نخرج أفكارنا إلى الوجود بالفعل عن طريق اللغة ، وبهذا يتحدد وجود الفكر إنطلاقا من وجود اللغة ، يقول ميرلوبونتي : { إن الفكر لا يوجد خارج الكلمات } ، وبالتالي لا يمكن إعتبار الكلام مجرد علامة على وجود الفكر حسب ميرلوبونتي مثلما الأمر بالنسبة لعلاقة الدخان بالنار ، فالكلمات في حد ذاتها هي المظهر الخارجي للفكر ، بينما ( هردر ) يرى أن اللغة ليست مجرد أداة للتفكير بل هي القالب الذي يتشكل منه الفكر ، وبالتالي فعالمنا الفكري يتحدد إنطلاقا بحدود عالمنا اللغوي ، فكل أمة حسب هردر تتكلم كما تفكر وتفكر كما تتكلم ، وكل أمة تخزن في لغتها تجاربها ، وبالتالي فاللغة ليست أداة فحسب ولا محتوى فحسب بل هي القالب الذي تفصل المعرفة على أساسه ، وهذا ما أكده في قوله : { كل أمة تتكلم كما تفكر وتفكر كما تتكلم } ، أما ( هيغل ) يرى أن الإنسان يفكر داخل الكلمات لا خارجها ، وفعل التفكير لا يتحقق بإستقلاله عن الكلام أو تركيب جمل ، فالفكرة حسب هيغل لا تكتسب وجودها الفعلي إلا عندما تصاغ صياغة لغوية ، فالصياغة اللغوية هي ما تجعل الفكرة تتحقق بالفعل ، وبذلك ندركها على حقيقتها وماهيتها ، ويقوم دليل هيغل على التمييز بين العالم الداخلي والعالم الخارجي ، بين الذاتية والموضوعية ، فعندما تكون الفكرة في داخلنا وفي ذاتيتنا باعتبارها جزءا من النشاط النفسي غير المعبر عنه ، وبذلك تكون غامضة وغير محددة المعالم ، لكن بالكلمة تنفصل عن الذاتية وتتحقق في الخارج ، وبالتالي نقول حينها أنها تموضعت وأصبح لها وجود موضوعي وغدت واضحة متميزة تفرض نفسها علينا وعلى الوجود ، يقول هيغل : { نحن نفكر داخل الكلمات } ، فإذن حسب هيغل أن الأنشطة الذاتية لا تنتج أفكارا واضحة ومتميزة إلا عندما نصيغها في قالب لغوي ونموضعها ، أي أن الفكر بدون لغة يبقى مجرد عبارة عن سديم مبهم أو ركام من العناصر غير المتميزة ، بمعنى آخر أن الفكر بدون لغة هو فكر غير واعي أو لنقل جزء من اللاوعي ، يقول هيغل : { الكلمة تعطي الفكر وجوده الأسمى } ، في حين ذهب ( دولاكروا ) إلى إعتبار أن اللغة هي التي تعطي الفكر طابعه القيمي والأنطولوجي ، فنحن لا نفكر دون كلمات ، حيث يقول : { الفكر يصنع اللغة وهي تصنعه } . كما نجد ( هاملتون ) أكد على عدم ضرورة فصل اللغة عن الفكر لأن بينهما رابطة متينة يستحيل تجاوزها والتغاضي عنها ، يقول من هذا المنوال : { إن المعاني شبيهة بشرارة النار لا تومض إلا لتغيب ولا يمكن إظهارها وتثبيتها إلا بالألفاظ } ، في حين ذهبت ( جوليا كريستيفا ) إلى إعتبار أن علاقة اللغة بالفكر علاقة تلازم وتبعية ، فاللغة تكتسي طابعا ماديا متنوعا ، فيمكن أن تتمظهر حسب كريستيفا في صورة سلسلة من الأصوات المنطوقة ، أو في صورة شبكة من العلامات المكتوبة ، أو على شكل لعبة من الإيماءات ، وهذه هي الحقيقة المادية التي تجسم ما نسميه فكرا ، أي أن اللغة هي الطريقة الوحيدة التي يمكن أن يوجد بها الفكر ، بل هي حقيقة وجوده وخروجه إلى الوجود ، أو كما تقول : { إن اللغة جسم الفكر } .
نقد وتقييم :
إن ماذهب إليه هذا الاتجاه أمر مبالغ فيه ، فإذا كانت اللغة تعبر عن كل أفكارنا كيف نفسر لجوء الإنسان إلى وسائل تعبيرية أخرى عوض اللغة محاولا التعبير عن زخم أفكاره ، مثل فن الرسم ، الرقص التعبيري ...الخ ، كما هل من المعقول أن نساوي بين ماهو فكري مجرد وبين ماهو رمزي مادي ؟! . كما أن الإنسان دوماً يشعر باللامساواة بين قدرتهم على التفكير وقدرته على التبليغ .
تركيب :
من خلال ما سبق ذكره يمكننا القول بأنه ليس من الممكن الفصل بين الفكر واللغة ، لأن اللفة والفكر يمثلان وحدة موحدة وظيفيا ، فالفكر بدون لغة ب
يبقى مجرد أفكار لا معنى لها ، فباللغة يثبت الفكر أنطولوجيته ، كما أن اللغة بدون فكر تبقى مجرد ضرب من السفسطة والثرثرة ، فالعلاقة بين اللغة والفكر إذن هي علاقة تأثير وتأثر ، فاللغة تشكل الوعاء والفكر يمثل المضمون ، يقول ( لافيل ) : { ليست اللغة كما يعتقد البعض ثوب الفكرة ولكن جسمها الحقيقي } .
حل المشكلة :
في الأخير يمكننا القول بأنه على الرغم من أن الفكر هو عمل العقل الذي يحدث في الذهن ، وعلى الرغم من أن اللغة أصوات ورموز خارجية يتلفظ بها الإنسان ، فإن العلاقة بينهما هي علاقة تفاعلية تكاملية ، فهما كالقطعة النقدية وجهها الأول يمثل الفكر ، وظهرها يمثل اللغة ، فإذا فسد وجه من الوجهين فسدت القطعة ، فالفكرة بالنسبة للغة كالروح بالنسبة للجسد .
إرسال تعليق