يسر مدونة التربية و التعليم ان تقدم لكم :
مقالة شاملة حول العلوم الانسانية.من اعداد الاستاذ القدير صوالحي جعلها الله في ميزان حسناته.
مــقــدمــة : طـرح المشـكــلة
إحتل المنهج التجريبي مكانة في أبجديات البحث الإنساني الحديث،وغدا نموذجا لكل معرفة تروم الدقة والموضوعية الأمرعائد بالأساس إلى النجاح الذي نتج عن تجسيده في الظواهرالجامدة والحية،تماشيا مع هذا حاول العلماء والباحثين توسيع نطاقه ليشمل الظواهرالإنسانية التي تتعلق بأبعاد الإنسان،التاريخية والاجتماعية و النفسية،إلا أن طبيعة هذه الظواهر وتفردها ،فرضت جملة عوائق وعقبات دفعت بعض الباحثين إلى الإقرار باستحالة إخضاعها لدراسة تجريبية موضوعية،في حين أكد البعض الآخرعلى إمكانية تجاوزهذه العقبات وتجسيد خطوات المنهج التجريبي على مستوى الظواهرالانسانية،وهوالأمر الذي يدفعنا إلى التساؤل:
هل الدراسة التجريبية للظاهرة الانسانية أمرممكن أم متعذر؟ أو بمعنى،هل يمكن تجاوز العوائق التي تفرضها طبيعة الظاهرة الإنسانية ؟ أو بالأحرى،هل يمكن إدراك الموضوعية في هذه الدراسة،ومن ثمة التنبؤ الدقيق من سلوكات الإنسان؟
الــتوســيع : مـحــاولة حل المشكــلة
القــضية: (الدراسة التجريبية على الظاهرة الإنسانية أمر متعذر)
إن طبيعة الظاهرة الإنسانية (التاريخية،الإجتماعية،النفسية) وخصوصيتها فرضت جملة من العوائق الإبستيمولوجية، جعلت إمكانية دراستها دراسة علمية وموضوعية أمرمستحيل نظرا لعلاقة الظاهرةبالذات الباحثة،بالإضافة إلى عديد العقبات التي تحول دون تجسيد خطوات المنهج التجريبي وكذا مبادئ العلم.(السببية،الحتمية،التنبؤ).
البـرهــنة: ومن الحجج والبراهين التي تؤكد هذا الطرح مايلي:
1- عوائق التجريب على الظاهرة التاريخية: إنها حادثة إنسانية ماضية مقترنة بفكرتي الزمان والمكان غير قابلة للتكرارولا يمكن عزلها وبالتالي يستحيل ملاحظتها والتجريب عليها ومن ثمة تنعدم القوانين ويستحيل التنبؤ،فالتاريخ لايعيد نفسه وعليه يتعذر تحقيق الحتمية التي تعني ثبات الشروط والأسباب،في حين أن الشروط والأسباب عند الإنسان ليست ثابتة، فما كان بالأمس سببا لم يعد اليوم كذلك.كما يستحيل إدراك الموضوعية في هذه الدراسة لأن الحوادث التاريخية ذاتية والمؤرخ يعيش التاريخ ولايمكن أن يقف موقف الحياد من حوادث تعتبر جزءا منه.فالتاريخ على حد تعبيرفولتير جملة من الخدع والأباطيل ،يديرها الأحياء والأموات حتى تناسب رغباتهم،كما أنها (أي الظاهرة التاريخية) وصفية غير قابلة للقياس بينما العلم يتعامل مع الظواهر القابلة للقياس.تماشيا مع هذا اعتقد شوبنهاورأن التاريخ ليس علما لأنه لا يتعلق إلابالظواهرالخاصة والحوادث الفريدة ،وهو نفس ما عبرعنه فولتير في قوله" كان من الضروري أن يكتب الفلاسفة التاريخ لأنه فن وليس علما".
2- عوائق التجريب على الظواهر النفسية: إن الظاهرة النفسية معقدة ومتداخلة يشتبك فيها الإدراك مع الإحساس و الذكاء مع الخيال والإنتباه مع الإرادة وهي تتميز بسمة الديمومة وعدم الثبات(التغير)،كما أنها ظاهرة معنوية (الهيجان)لاتقبل التكرار وصفية كيفية يصعب قياسها،لاتقبل الملاحظة ولايمكن للباحث في نطاقها أن يدرك الموضوعية(علاقة الذات العارفة بموضوع المعرفة) وفي هذا المضماريرى جان بياجي أن" وضعية من هذا القبيل تتداخل فيها الذات بالموضوع هي سبب الصعوبات الإضافية التي تفرضها علوم الإنسان مقارنة مع العلوم الطبيعية"،فالذات التي تلاحظ أو تجرب على نفسها أوعلى الذوات الأخرى المماثلة لها،قد يلحقها تغيير مصدره الظواهر التي تتم ملاحظتها من جهة، كما يمكن أن تكون الذات من جهة أخرى مصدر تغيرات في مجرى هذه الظواهر بل حتى في طبيعتها".وبالإضافة إلى ذلك تعد اللغة الوسيلة الوحيدة المعتمدة أثناء الدراسة النفسية، لكن قد تكون مصدر خداع لأن المريض النفساني لايستطيع البوح بجميع أسراره إذ عادة مايظهرأسرار ويخفي أخرى، فالنفس على حد تعبير ريبو لاتعرف نفسها.و يرى سارتر أن"الإنسان هوذلك الكائن المجهول يكون معلوما يوم يكون معدوما"،كما أن الظواهرالنفسية لاتخضع بصفة مطلقة لمبدأ الحتمية،فنفس الأسباب لاتؤدي إلى نفس النتائج،فالفشل عل سبيل المثال لايؤدي دوما إلى الإحباط. ولاتخضع أيضا لمبدأ الإستقراء فمايصدق على الجزء لايمكن تعميمه على الكل.
3- عوائق التجريب على الظاهرة الاجتماعية:إن الظاهرة الاجتماعية مركبة تتداخل فيها أبعاد الإنسان المختلفة منها النفسية والتاريخية والدينية والإقتصادية والبيولوجية...ومن ثمة فإن الظواهرالمعقدة على شاكلت الظاهرة الاجتماعية والنتائج التي ترجع إلى أسباب وعلل متداخلة ومركبة على حد تعبير جون ستيوارت مل لاتصلح أن تكون موضوعا حقيقيا للاستقراء العلمي المبني على الملاحظة والتجربة،كما أن الظاهرة الاجتماعية بشرية متصلة بحياة الإنسان ولاتشبه الأشياء، والإنسان يملك إرادة وحرية في التصرف هذا الأمر من شأنه تغييب الموضوعية، إذ من الصعب على حد تعبير المفكر أحمد بدر"أن نكون موضوعيين في مجال يمثل الجانب الذاتي من الحياة"، كما أنها قابلة للوصف الكيفي وليس للتقدير الكمي،و لاتخضع لمبدأ الحتمية فتوفر نفس الأسباب لا يؤدي إلى نفس النتائج،مما يعني عدم إمكانية التنبؤ على مستوى الظواهرالاجتماعية إذ يستحيل على الباحث الإجتماعي أن يصل إلى قوانين تصور لنا ماسيكون عليه المجتمع وأفراده.
الــنقـــد:
لكن القول بهذه الصعوبات والعوائق لايعد مانعا أمام إمكانية دراسة الظواهرالانسانية دراسة علمية موضوعية ،تماشيا مع الفرضية الإبستيمولوجية "طبيعة الموضوع تحدد طبيعة المنهج"،بل تلك العوائق كلاسيكية ظهرت مع البدايات الأولى لهذه الدراسة ولم تمنع العلماء من محاولة إقتحامها و تجاوزها،ومن ثمة لايمكن إنكار قيمة علم التاريخ وعلم الإجتماع وعلم النفس.
نقيض القضية:(الدراسة التجريبية على الظواهر الإنسانية أمر ممكن)
إستطاع العلماء والباحثين من تجاوز العوائق وتحيين العقبات،وكذا تكييف المنهج التجريبي مع طبيعة الظاهرة ،ومن ثمة التأسيس لدراسة علمية وموضوعية،جعلت من العلوم الإنسانية تشق طريقها إلى مصف العلوم الطبيعية.هذا الأمر تجلى في أبحاث كل من ابن خلدون وأوغست كونت وجون واطسن.
الـبرهنــة: ومن الحجج والبراهين التي تؤكد صدق هذا الطرح مايلي:
1- تجاوز العوائق في الدراسة التاريخية: يعود الفضل في هذا النطاق إلى العلامة عبد الرحمن ابن خلدون الذي أكد على إمكانية دراسة الظاهرة التاريخية دراسة علمية موضوعية، ودعى المؤرخ إلى إتباع منهج علمي دقيق يقوم على قواعد ثابتة تبعده عن الذاتية وعن الكذب وهي التشيعات لآراء المذاهب والثقة بالناقلين والذهول عن المقاصد والجهل بطبائع الأحوال في العمران والتقرب إلى الرؤساء والملوك.وألح هذا الأخير على ضرورة دراسة الحادثة حسب آثارها ومخلفاتها وإخضاع ظواهرها للتجريب وتحري الموضوعية وذلك تماشايا مع طبيعة الظاهرة وخصوصيتها وهو مايجعلها تتبع منهج خاص يقوم على:
- جمع المصادر التي تمثل كل ماخلفته الحادثة التاريخية بصورة إرادية كالتماثيل،أو لاإرادية كالمباني والأسلحة،أو مادية كالوثائق والنقود،أو معنوية كنفسية الشعوب بعد الحروب.
- نقد وتحليل المصادر من حيث الشكل،وذلك بملاحظتها ولاسيما الوثائق بمشاهدة شكل الورق ونوع الكتابة،ثم دراستها تجريبيا بإخضاعها لتحليل كيميائي يعرفنا على زمن الورق والحبر.ثم من حيث المضمون وذلك بمعرفة الأفكاروالمعلومات ومدى مطابقتها لعصر الذي يؤرخ له.
- مرحلة بناء الحادثة التاريخية،عن طريق التركيب بين عناصرها بعد عمليتين هما،الترتيب الزمني والتصنيف حسب الموضوع،وهنا تعترض المؤرخ فجواة فيلجأ إلى الفرضية بالربط بين السابق واللاحق ليصل في الأخير إلى القوانين المتحكمة في سير الظواهر والتي يمكن أن تعمم على غيرها،حسب التفسير الماركسي(نسبة إلى كارل ماركس) الذي يرجعه إلى قانون التناقض بين علاقات الإنتاج وقوى الإنتاج.
2- تجاوز العوائق في الدراسة الإجتماعية: لقد برز بشكل واضح طموح السوسيولوجيا في أن تتأسس كمعرفة علمية منذ أن تم وضع الصيغة الأولى لتسميتها من طرف أوغست كونت(1798-1857)،"علم الإجتماع"، كعلم معني بدراسة الحياة الإجتماعية والجماعات والمجتمعات الإنسانية.و بالإضافة إلى إسهام هذا الأخير يكاد ينفرد إيميل دوركايم -دون غيره- بأنه بذل قصارى جهده في تشخيص الظاهرة الإجتماعية والدعوة إلى دراستها كأشياء، هذا الأمر أدى إلى تجاوز العوائق التي تفرضها طبيعة الظاهرة الاجتماعية،وفتح المجال أمام دراسة علمية ممنهجة وموضوعية.ومن بين الخصائص التي تمتازبها هذه الظاهرة حسب التصور الدوركايمي: الظواهرالإجتماعية توجد خارج شعورالأفراد فهم مقيدون بها في شكل عادات وتقاليد وقوانين وأعراف يجدونها تامة التكوين فهي ذات وجود خارج عنهم وبالتالي فهي حقائق موضوعية.كما تتسم بالإلزام والإكراه فهي تفرض نفسها علينا ولانستطيع معارضتها، وهي ظاهرة جماعية تنسب إلى الضمير الجمعي ولايمكن أن تكون تابعة للفرد لأنها عامة مشتركة بين الجميع ومتواترة في سلوكاتهم،وتظهر كذلك في شكل علاقات تجعلها مرتبطة مع بعضها البعض والواحدة منها تفسر الأخرى،فالأسرة على سبيل المثال مرآة المجتمع وبينهما تأثير متبادل.كما تمثل الظاهرة الاجتماعية حادثة تاريخية لأنها تعبر عن نموذج من الإجتماع البشري في فترات ماضية وتراث يتناقل عبر الأجيال.و من ثمة فإن اكتشاف هذه الخصائص المححدة للظواهرالإجتماعية أدى إلى تطور كبير وتقدم ملحوظ في دراستها بصورة علمية موضوعية بإعتبارها مماثلة للظواهرالمادية،تقبل الملاحظة،ويمكن إستنباط الفروض المتحكمة فيها،والقوانين المحددة لها،أي دراستها بنفس منهج الفيزياء والكيمياء(المنهج التجريبي)
3- تجاوز العوائق في الدراسة النفسية: استطاع العلماء من تجاوز العوائق التي تفرضها طبيعة الظاهرة النفسية،ويعود الفضل في ذلك إلى العالم الأمريكي جون واطسن الذي أسس المنهج السلوكي متجاوز بذلك نظرية الاستبطان لويليام فونت وناقدا للجانب الشعوري الذي اعتبره خرافيا وميتافيزيقيا،وأكد على ضرورة دراسة السلوك الظاهر للإنسان أي ماهو ملموس ويمكن ملاحظته،هذا الموقف يرتبط أساسا بنظرية "المنعكس الشرطي"للعالم الروسي بافلوف التي أثارت إنتباه الباحثين السايكولوجيين وساعدتهم في فهم كل عمليات التعلم، من عادة وتذكرو إدراك وفتحت آفاقا جديدة في مجال الأبحاث النفسية.ومن ثمة تمكن العلماء من تجاوز جملة العقبات التي كانت تحول دون فهمهم لبعض الظواهر النفسية،إذ تم تجاوز عائق الملاحظة،بحيث أصبح من الممكن ملاحظة الظواهر النفسية من خلال الملامح الخارجية للإنسان(للسلوك) عن طريق مايسمى بالإستجابات النوعية المختلفة،كملاحظة آثار الخوف التي تظهر على الإنسان،ثم وضع فرضيات وراء الظاهرة،والتحقق منها تجريبيا،وذلك عن طريق تكرارها بالموازاة مع توفير مجموعة من المنبهات التي يترتب عنها سلوكات محددة،للوصول في النهاية إلى القوانين والعلاقات الثابتة المتحكمة فيها.وهكذا وبفضل تطبيق المنهج التجريبي تمكن العلماء من إقتحام خصوصيات الحادثة النفسية كالديمومة والذاتية والتشابك،وظهرت عدة مدارس وتخصصات وكذا أبحاث مكنت الإنسان من فهم حقيقة الأمراض النفسية وسبل الوقاية منها.(مدرسة التحليل النفسي، المدرسة الشكلية، المدرسة التلفيقية).
النقد:
لكن النتائج المحققة في نطاق الظواهر الإنسانية تبقى نسبية وليست دقيقة،كما أن إدراك الموضوعية يعد أكبر هاجس يواجه الباحثين لعلاقة الظاهرة بالذات الباحثة،ثم إن التاريخ لايعيد نفسه وحتى وإن حدث ذلك فإنه ليس بنفس الكيفية التي كان عليها،كما أن المجتمع لايضم أشياء كما اعتقد دوركايم بل أفرادا لهم مبادئ وخصوصيات،وفي مجال علم النفس تبقى النتائج غير دقيقة والجانب الذاتي كثيرا ما يتمظهر على مستوى الدراسة لصعوبة فك الإرتباط بين الموضوع والدراس له، كما لا يمكن حصر الجانب النفسي في السلوك بل الحياة النفسية شعور قبل أن تكون سلوكا آليا.
التركيب
لايمكن اعتبار الظاهرة الانسانية مجهولة غير قابلة للدراسة التجريبية كما انها في نفس الوقت ليست ظاهرة فيزيائية تخضع لخطوات المنهج التجريبي خضوعا تاما ،بل هي تحمل خصوصيات تمكن العلماء من الكشف عن بعضها في حين بقيت أخرى مجهولة إلى اليوم
الخاتمة
ما ننتهي إليه في الأخير هو أن الدراسة التجريبية للظواهر الإنسانية أمر ممكن ودليل ذلك الأبحاث العلمية المعاصرة في ميادين علم النفس وعلم الاجتماع وعلم التاريخ،لكن من زاوية موضوعية ينبغي القول أن العلوم الإنسانية تبقى نتائجها نسبية إذا ماقورنت بالنتائج المحققة على مستوى الظواهر الفيزيائية والبيولويجية.
إحتل المنهج التجريبي مكانة في أبجديات البحث الإنساني الحديث،وغدا نموذجا لكل معرفة تروم الدقة والموضوعية الأمرعائد بالأساس إلى النجاح الذي نتج عن تجسيده في الظواهرالجامدة والحية،تماشيا مع هذا حاول العلماء والباحثين توسيع نطاقه ليشمل الظواهرالإنسانية التي تتعلق بأبعاد الإنسان،التاريخية والاجتماعية و النفسية،إلا أن طبيعة هذه الظواهر وتفردها ،فرضت جملة عوائق وعقبات دفعت بعض الباحثين إلى الإقرار باستحالة إخضاعها لدراسة تجريبية موضوعية،في حين أكد البعض الآخرعلى إمكانية تجاوزهذه العقبات وتجسيد خطوات المنهج التجريبي على مستوى الظواهرالانسانية،وهوالأمر الذي يدفعنا إلى التساؤل:
هل الدراسة التجريبية للظاهرة الانسانية أمرممكن أم متعذر؟ أو بمعنى،هل يمكن تجاوز العوائق التي تفرضها طبيعة الظاهرة الإنسانية ؟ أو بالأحرى،هل يمكن إدراك الموضوعية في هذه الدراسة،ومن ثمة التنبؤ الدقيق من سلوكات الإنسان؟
الــتوســيع : مـحــاولة حل المشكــلة
القــضية: (الدراسة التجريبية على الظاهرة الإنسانية أمر متعذر)
إن طبيعة الظاهرة الإنسانية (التاريخية،الإجتماعية،النفسية) وخصوصيتها فرضت جملة من العوائق الإبستيمولوجية، جعلت إمكانية دراستها دراسة علمية وموضوعية أمرمستحيل نظرا لعلاقة الظاهرةبالذات الباحثة،بالإضافة إلى عديد العقبات التي تحول دون تجسيد خطوات المنهج التجريبي وكذا مبادئ العلم.(السببية،الحتمية،التنبؤ).
البـرهــنة: ومن الحجج والبراهين التي تؤكد هذا الطرح مايلي:
1- عوائق التجريب على الظاهرة التاريخية: إنها حادثة إنسانية ماضية مقترنة بفكرتي الزمان والمكان غير قابلة للتكرارولا يمكن عزلها وبالتالي يستحيل ملاحظتها والتجريب عليها ومن ثمة تنعدم القوانين ويستحيل التنبؤ،فالتاريخ لايعيد نفسه وعليه يتعذر تحقيق الحتمية التي تعني ثبات الشروط والأسباب،في حين أن الشروط والأسباب عند الإنسان ليست ثابتة، فما كان بالأمس سببا لم يعد اليوم كذلك.كما يستحيل إدراك الموضوعية في هذه الدراسة لأن الحوادث التاريخية ذاتية والمؤرخ يعيش التاريخ ولايمكن أن يقف موقف الحياد من حوادث تعتبر جزءا منه.فالتاريخ على حد تعبيرفولتير جملة من الخدع والأباطيل ،يديرها الأحياء والأموات حتى تناسب رغباتهم،كما أنها (أي الظاهرة التاريخية) وصفية غير قابلة للقياس بينما العلم يتعامل مع الظواهر القابلة للقياس.تماشيا مع هذا اعتقد شوبنهاورأن التاريخ ليس علما لأنه لا يتعلق إلابالظواهرالخاصة والحوادث الفريدة ،وهو نفس ما عبرعنه فولتير في قوله" كان من الضروري أن يكتب الفلاسفة التاريخ لأنه فن وليس علما".
2- عوائق التجريب على الظواهر النفسية: إن الظاهرة النفسية معقدة ومتداخلة يشتبك فيها الإدراك مع الإحساس و الذكاء مع الخيال والإنتباه مع الإرادة وهي تتميز بسمة الديمومة وعدم الثبات(التغير)،كما أنها ظاهرة معنوية (الهيجان)لاتقبل التكرار وصفية كيفية يصعب قياسها،لاتقبل الملاحظة ولايمكن للباحث في نطاقها أن يدرك الموضوعية(علاقة الذات العارفة بموضوع المعرفة) وفي هذا المضماريرى جان بياجي أن" وضعية من هذا القبيل تتداخل فيها الذات بالموضوع هي سبب الصعوبات الإضافية التي تفرضها علوم الإنسان مقارنة مع العلوم الطبيعية"،فالذات التي تلاحظ أو تجرب على نفسها أوعلى الذوات الأخرى المماثلة لها،قد يلحقها تغيير مصدره الظواهر التي تتم ملاحظتها من جهة، كما يمكن أن تكون الذات من جهة أخرى مصدر تغيرات في مجرى هذه الظواهر بل حتى في طبيعتها".وبالإضافة إلى ذلك تعد اللغة الوسيلة الوحيدة المعتمدة أثناء الدراسة النفسية، لكن قد تكون مصدر خداع لأن المريض النفساني لايستطيع البوح بجميع أسراره إذ عادة مايظهرأسرار ويخفي أخرى، فالنفس على حد تعبير ريبو لاتعرف نفسها.و يرى سارتر أن"الإنسان هوذلك الكائن المجهول يكون معلوما يوم يكون معدوما"،كما أن الظواهرالنفسية لاتخضع بصفة مطلقة لمبدأ الحتمية،فنفس الأسباب لاتؤدي إلى نفس النتائج،فالفشل عل سبيل المثال لايؤدي دوما إلى الإحباط. ولاتخضع أيضا لمبدأ الإستقراء فمايصدق على الجزء لايمكن تعميمه على الكل.
3- عوائق التجريب على الظاهرة الاجتماعية:إن الظاهرة الاجتماعية مركبة تتداخل فيها أبعاد الإنسان المختلفة منها النفسية والتاريخية والدينية والإقتصادية والبيولوجية...ومن ثمة فإن الظواهرالمعقدة على شاكلت الظاهرة الاجتماعية والنتائج التي ترجع إلى أسباب وعلل متداخلة ومركبة على حد تعبير جون ستيوارت مل لاتصلح أن تكون موضوعا حقيقيا للاستقراء العلمي المبني على الملاحظة والتجربة،كما أن الظاهرة الاجتماعية بشرية متصلة بحياة الإنسان ولاتشبه الأشياء، والإنسان يملك إرادة وحرية في التصرف هذا الأمر من شأنه تغييب الموضوعية، إذ من الصعب على حد تعبير المفكر أحمد بدر"أن نكون موضوعيين في مجال يمثل الجانب الذاتي من الحياة"، كما أنها قابلة للوصف الكيفي وليس للتقدير الكمي،و لاتخضع لمبدأ الحتمية فتوفر نفس الأسباب لا يؤدي إلى نفس النتائج،مما يعني عدم إمكانية التنبؤ على مستوى الظواهرالاجتماعية إذ يستحيل على الباحث الإجتماعي أن يصل إلى قوانين تصور لنا ماسيكون عليه المجتمع وأفراده.
الــنقـــد:
لكن القول بهذه الصعوبات والعوائق لايعد مانعا أمام إمكانية دراسة الظواهرالانسانية دراسة علمية موضوعية ،تماشيا مع الفرضية الإبستيمولوجية "طبيعة الموضوع تحدد طبيعة المنهج"،بل تلك العوائق كلاسيكية ظهرت مع البدايات الأولى لهذه الدراسة ولم تمنع العلماء من محاولة إقتحامها و تجاوزها،ومن ثمة لايمكن إنكار قيمة علم التاريخ وعلم الإجتماع وعلم النفس.
نقيض القضية:(الدراسة التجريبية على الظواهر الإنسانية أمر ممكن)
إستطاع العلماء والباحثين من تجاوز العوائق وتحيين العقبات،وكذا تكييف المنهج التجريبي مع طبيعة الظاهرة ،ومن ثمة التأسيس لدراسة علمية وموضوعية،جعلت من العلوم الإنسانية تشق طريقها إلى مصف العلوم الطبيعية.هذا الأمر تجلى في أبحاث كل من ابن خلدون وأوغست كونت وجون واطسن.
الـبرهنــة: ومن الحجج والبراهين التي تؤكد صدق هذا الطرح مايلي:
1- تجاوز العوائق في الدراسة التاريخية: يعود الفضل في هذا النطاق إلى العلامة عبد الرحمن ابن خلدون الذي أكد على إمكانية دراسة الظاهرة التاريخية دراسة علمية موضوعية، ودعى المؤرخ إلى إتباع منهج علمي دقيق يقوم على قواعد ثابتة تبعده عن الذاتية وعن الكذب وهي التشيعات لآراء المذاهب والثقة بالناقلين والذهول عن المقاصد والجهل بطبائع الأحوال في العمران والتقرب إلى الرؤساء والملوك.وألح هذا الأخير على ضرورة دراسة الحادثة حسب آثارها ومخلفاتها وإخضاع ظواهرها للتجريب وتحري الموضوعية وذلك تماشايا مع طبيعة الظاهرة وخصوصيتها وهو مايجعلها تتبع منهج خاص يقوم على:
- جمع المصادر التي تمثل كل ماخلفته الحادثة التاريخية بصورة إرادية كالتماثيل،أو لاإرادية كالمباني والأسلحة،أو مادية كالوثائق والنقود،أو معنوية كنفسية الشعوب بعد الحروب.
- نقد وتحليل المصادر من حيث الشكل،وذلك بملاحظتها ولاسيما الوثائق بمشاهدة شكل الورق ونوع الكتابة،ثم دراستها تجريبيا بإخضاعها لتحليل كيميائي يعرفنا على زمن الورق والحبر.ثم من حيث المضمون وذلك بمعرفة الأفكاروالمعلومات ومدى مطابقتها لعصر الذي يؤرخ له.
- مرحلة بناء الحادثة التاريخية،عن طريق التركيب بين عناصرها بعد عمليتين هما،الترتيب الزمني والتصنيف حسب الموضوع،وهنا تعترض المؤرخ فجواة فيلجأ إلى الفرضية بالربط بين السابق واللاحق ليصل في الأخير إلى القوانين المتحكمة في سير الظواهر والتي يمكن أن تعمم على غيرها،حسب التفسير الماركسي(نسبة إلى كارل ماركس) الذي يرجعه إلى قانون التناقض بين علاقات الإنتاج وقوى الإنتاج.
2- تجاوز العوائق في الدراسة الإجتماعية: لقد برز بشكل واضح طموح السوسيولوجيا في أن تتأسس كمعرفة علمية منذ أن تم وضع الصيغة الأولى لتسميتها من طرف أوغست كونت(1798-1857)،"علم الإجتماع"، كعلم معني بدراسة الحياة الإجتماعية والجماعات والمجتمعات الإنسانية.و بالإضافة إلى إسهام هذا الأخير يكاد ينفرد إيميل دوركايم -دون غيره- بأنه بذل قصارى جهده في تشخيص الظاهرة الإجتماعية والدعوة إلى دراستها كأشياء، هذا الأمر أدى إلى تجاوز العوائق التي تفرضها طبيعة الظاهرة الاجتماعية،وفتح المجال أمام دراسة علمية ممنهجة وموضوعية.ومن بين الخصائص التي تمتازبها هذه الظاهرة حسب التصور الدوركايمي: الظواهرالإجتماعية توجد خارج شعورالأفراد فهم مقيدون بها في شكل عادات وتقاليد وقوانين وأعراف يجدونها تامة التكوين فهي ذات وجود خارج عنهم وبالتالي فهي حقائق موضوعية.كما تتسم بالإلزام والإكراه فهي تفرض نفسها علينا ولانستطيع معارضتها، وهي ظاهرة جماعية تنسب إلى الضمير الجمعي ولايمكن أن تكون تابعة للفرد لأنها عامة مشتركة بين الجميع ومتواترة في سلوكاتهم،وتظهر كذلك في شكل علاقات تجعلها مرتبطة مع بعضها البعض والواحدة منها تفسر الأخرى،فالأسرة على سبيل المثال مرآة المجتمع وبينهما تأثير متبادل.كما تمثل الظاهرة الاجتماعية حادثة تاريخية لأنها تعبر عن نموذج من الإجتماع البشري في فترات ماضية وتراث يتناقل عبر الأجيال.و من ثمة فإن اكتشاف هذه الخصائص المححدة للظواهرالإجتماعية أدى إلى تطور كبير وتقدم ملحوظ في دراستها بصورة علمية موضوعية بإعتبارها مماثلة للظواهرالمادية،تقبل الملاحظة،ويمكن إستنباط الفروض المتحكمة فيها،والقوانين المحددة لها،أي دراستها بنفس منهج الفيزياء والكيمياء(المنهج التجريبي)
3- تجاوز العوائق في الدراسة النفسية: استطاع العلماء من تجاوز العوائق التي تفرضها طبيعة الظاهرة النفسية،ويعود الفضل في ذلك إلى العالم الأمريكي جون واطسن الذي أسس المنهج السلوكي متجاوز بذلك نظرية الاستبطان لويليام فونت وناقدا للجانب الشعوري الذي اعتبره خرافيا وميتافيزيقيا،وأكد على ضرورة دراسة السلوك الظاهر للإنسان أي ماهو ملموس ويمكن ملاحظته،هذا الموقف يرتبط أساسا بنظرية "المنعكس الشرطي"للعالم الروسي بافلوف التي أثارت إنتباه الباحثين السايكولوجيين وساعدتهم في فهم كل عمليات التعلم، من عادة وتذكرو إدراك وفتحت آفاقا جديدة في مجال الأبحاث النفسية.ومن ثمة تمكن العلماء من تجاوز جملة العقبات التي كانت تحول دون فهمهم لبعض الظواهر النفسية،إذ تم تجاوز عائق الملاحظة،بحيث أصبح من الممكن ملاحظة الظواهر النفسية من خلال الملامح الخارجية للإنسان(للسلوك) عن طريق مايسمى بالإستجابات النوعية المختلفة،كملاحظة آثار الخوف التي تظهر على الإنسان،ثم وضع فرضيات وراء الظاهرة،والتحقق منها تجريبيا،وذلك عن طريق تكرارها بالموازاة مع توفير مجموعة من المنبهات التي يترتب عنها سلوكات محددة،للوصول في النهاية إلى القوانين والعلاقات الثابتة المتحكمة فيها.وهكذا وبفضل تطبيق المنهج التجريبي تمكن العلماء من إقتحام خصوصيات الحادثة النفسية كالديمومة والذاتية والتشابك،وظهرت عدة مدارس وتخصصات وكذا أبحاث مكنت الإنسان من فهم حقيقة الأمراض النفسية وسبل الوقاية منها.(مدرسة التحليل النفسي، المدرسة الشكلية، المدرسة التلفيقية).
النقد:
لكن النتائج المحققة في نطاق الظواهر الإنسانية تبقى نسبية وليست دقيقة،كما أن إدراك الموضوعية يعد أكبر هاجس يواجه الباحثين لعلاقة الظاهرة بالذات الباحثة،ثم إن التاريخ لايعيد نفسه وحتى وإن حدث ذلك فإنه ليس بنفس الكيفية التي كان عليها،كما أن المجتمع لايضم أشياء كما اعتقد دوركايم بل أفرادا لهم مبادئ وخصوصيات،وفي مجال علم النفس تبقى النتائج غير دقيقة والجانب الذاتي كثيرا ما يتمظهر على مستوى الدراسة لصعوبة فك الإرتباط بين الموضوع والدراس له، كما لا يمكن حصر الجانب النفسي في السلوك بل الحياة النفسية شعور قبل أن تكون سلوكا آليا.
التركيب
لايمكن اعتبار الظاهرة الانسانية مجهولة غير قابلة للدراسة التجريبية كما انها في نفس الوقت ليست ظاهرة فيزيائية تخضع لخطوات المنهج التجريبي خضوعا تاما ،بل هي تحمل خصوصيات تمكن العلماء من الكشف عن بعضها في حين بقيت أخرى مجهولة إلى اليوم
الخاتمة
ما ننتهي إليه في الأخير هو أن الدراسة التجريبية للظواهر الإنسانية أمر ممكن ودليل ذلك الأبحاث العلمية المعاصرة في ميادين علم النفس وعلم الاجتماع وعلم التاريخ،لكن من زاوية موضوعية ينبغي القول أن العلوم الإنسانية تبقى نتائجها نسبية إذا ماقورنت بالنتائج المحققة على مستوى الظواهر الفيزيائية والبيولويجية.
إرسال تعليق